بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته، ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتبعاه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا مما يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون: كلمة الحب مؤلفة من حرفين، إنها في الإسلام تعني شيئاً كبيراً، إنها أصل من أصول الدين، إنها حقيقة راسخة من حقائق الإيمان.
أيها الإخوة الكرام: هذه الكلمة الكبيرة مُسِخت عند أهل الدنيا إلى ميل الذكر للأنثى، وللناحية الحسّية فيها، بينما هي في الإسلام شيء كبير، هذه الكلمة أيها الإخوة ينهج بذكرها العابدون، ويوصي بها الأطباء والمصلحون، ويسعى إلى ترسيخها الدعاة إلى الله عز وجل، العالم الإسلامي اليوم يعاني أزمة في المحبة، هذه الأزمة جعلت الإنسان لا يفهم معنى إنسانيته، يعيش لنفسه، أو يعيش الناس له، أما أن يعيش للناس أما أن يحس بما يحس الآخرون، فهذا بعيد عن معظم المسلمين.
أيها الإخوة المؤمنون: نحن كمسلمين في فقر مدقع إلى الحب ! بمعانيه السامية التي جاء بها القرآن، بمعانيه النبيلة التي وردت في أحاديث النبي العدنان، بينما الكراهية والبغضاء سمة في علاقات الناس، ولعل أسباب ذلك نرجع إلى قانون مستنبط من قوله تعالى:
﴿فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾
(سورة المائدة)
فكل تقصير في حق الله، وكل معصية لله، وكل مخالفة لمنهج الله تنعكس فيما بين الناس عداوة وبغضاء لأن المصالح تتضارب، بينما الأخوّة في الله تتنامى و تتسامى.
أيها الإخوة الكرام: لا يمكن أن تكون هذه الكلمة الكبيرة ممسوخة بميل الذكر للأنثى فحسب، إنها ميل شهوة وحاجة، ولكن الإسلام أعطى كلمة الحب مفهومات واسعة جداً، قال أحدهم مرة وهو من علماء النفس: الإنسان الذي لا يجد حاجة أن يُحِب ولا أن يُحَب ليس من بني البشر، فكأنما الطائرة إن لم تطر ليست طائرة، سمّها ما شئت ليست طائرة ما لم تطر في الأجواء، كذلك الإنسان لا يعد إنساناً إلا إذا وجد في نفسه رغبة قوية أن يُحِب، وأن يُحَب، أوسع هذه الدوائر أن تحب الله الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، وأن تحب دينه القويم وصراطه المستقيم، وأن تحب إخوانك المؤمنين الذين تلتقي معهم في عدد لا يعدّ ولا يحصى من القواسم المشتركة، أن تحب رسول الله الذي جاءك بهذا الدين القويم، أن تحب أسرتك التي خلق الله بينك وبينها المودة والرحمة، حتى أن المؤمن يحب لقاء الله، الشيء الذي يفرق منه معظم الناس ويرونه أكبر مصيبة، المؤمن يحب لقاء الله، بعض علماء الرياضيات له مقولة مشهورة هي: أنا أفكر إذاً أنا موجود، لكن علماء القلوب يقولون: أنا أحب الله إذاً أنا مؤمن، علامة إيمانك أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما.
أيها الإخوة الكرام: شئنا أم أبينا أحببنا أم كرهنا، الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وما لم يتوازن بين هذين الخطين فإن خللاً خطيراً في شخصيته، ينبغي أن يعالج عقل يدرك وقلب يحب، جسم يتحرك وروح تتسامى، وفي قلبه تعتلج عواطف كثيرة منها عاطفة الحب وعاطفة البغض وعاطفة الرغبة وعاطفة الرهبة ومنها عاطفة الرجاء وعاطفة الخوف، هذا هو الإنسان الحي، ولكن حبّه وبغضه ورغبته ورهبته ورجائه وخوفه منضبطان بالشرع يحب لله ويبغض لله، ويخاف لله ويرجو لله، وكل أعمال قلبه إن صحّ التعبير منوطة بالله عز وجل، يحب المرأة كزوجة أو أماً أو أختاً أو ابنتاً هناك حدود لا يتجاوزها.
أيها الإخوة الكرام: بل إن المؤمن تتساوق نفسه مع الكون، أليس الكون من خلق الله، هناك علاقة طيبة بينه وبين كل من حوله، إلا أن يكون عدواً لله، أو إلا أن يكون مفسداً في الأرض، يحب الشجر يحب الأطيار يحب الأسماك، كل شيء خلقه الله عز وجل، حتى الحيوانات التي أُمِرنا بقتلها يقتلها وفق منهج الحب، لا يعذبها.
عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)).
(سنن الترمذي)
أيها الإخوة الكرام، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بِحُبِّي)).
(سنن الترمذي)
أهم ما في الحديث أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، الإنسان مفطور شاء أم أبى على حب النوال العطاء وحب الكمال وحب الجمال، وحين يكتشف المؤمن أن الله جل جلاله هو مصدر العطاء وأن الله منبع الكمال ومصدر الجمال، تحب الكمال والنوال والجمال وهي عند الله عز وجل لذلك:
﴿آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾
(سورة البقرة)
يقول الله عز وجل:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾
وحينما يكتشف الإنسان حبه لله بعد فوات الأوان أن القوة لله جميعاً، لعل القوة في العطاء أو لعلها في الكمال أو لعلها في الجمال، الشيء الذي يهواه الإنسان مخزون عند الله تعالى، لذلك المؤمن يحب الله، ويحب في الله، ولا يحب مع الله أحداً.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
((جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ.... فَقَالَ: وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاةٍ وَلا صِيَامٍ إِلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الإِسْلامِ فَرَحَهُمْ بِذَلِكَ))
(مسند الإمام أحمد)
فأن تحب رسول الله وان تحب الصحابة الكرام وأن تحب أولياء الله، وان تحب المؤمنين وأن تحب المساجد وان تحب القرآن وأن تحب كل ما يتّصل بالواحد الديّان هذا حب في الله، أما الحب مع الله أن تحب أعداء الله، أن تحب لمصالح ومآرب ولأهواء، الحب في الله عين التوحيد، والحب مع الله عين الشرك، بل إن مما يلفت النظر أن المؤمن يحب كل ما حوله النبي عليه الصلاة والسلام في معركة مؤلمة جداً لم يكتب للمسلمين فيها النصر، لكنه رأى جبل أُحد فقال عليه الصلاة والسلام:
((أحد جبل يُحبنا ونحبه ))
(الجامع الصغير الإصدار لجلال الدين السيوطي)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الْجِذْعُ حَتَّى أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))
(مسند الإمام أحمد)
أرأيت إلى هذه الشفافية ؟
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ ))
(صحيح مسلم)
((كان النبي عليه الصلاة والسلام قد دخل إلى بستان أحد الأنصار فرأى ناقة، وقد ذرفت دموعها فمسح ذفريها وقال: من صاحب هذه الناقة ؟ فجاؤوا بأنصاري من فتيان الأنصار قال أنا صاحبها يا رسول الله قال: ألا تتقي الله في هذا الجمل الذي سخره الله لك ؟ فإنه شكا إلي أنك توجعه وتدئبه ))
المؤمن يحب كل شيء، يحب مخلوقات الله، يحب النبات، يحب البيئة لا يلوثها، هو منسجم مع خلق الله عز وجل، هؤلاء الشاردون عن الله عز وجل يقولون: قهرنا الطبيعة غزونا الفضاء عبارات نابية وعبارات قاسية وعبارات تدل على همجية، الله جل جلاله قال:
﴿سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
(سورة لقمان)
ففرق بين التسخير والتبذير، وبين قهر الطبيعة وبين غزو الفضاء.
أيها الإخوة الكرام: النبي عليه الصلاة والسلام نهانا عن تمني الموت فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي))
(صحيح البخاري)
بل إن بعض أحد الصحابة الكرام كان في أسعد لحظات حياته حينما غادر الدنيا.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
((لَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرْبِ الْمَوْتِ مَا وَجَدَ قَالَتْ فَاطِمَةُ وَا كَرْبَ أَبَتَاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ مِنْ أَبِيكِ مَا لَيْسَ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدًا الْمُوَافَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
(سنن ابن ماجة)
أيها الإخوة الكرام: الحب اصل من أصول الدين، وسمة بارزة من سمات المؤمن، لأن هذا الكون بُني على المحبوبية، لو أن الله أراد أن نطيعه فقط لأجبرنا على طاعته، لكنه أراد قلوبنا أراد محبتنا، أراد مبادرتنا وسعينا إلى مرضاته، فلذلك هناك آيات كثيرة:
﴿لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ﴾
(سورة الرعد)
لو شاء أن نطيعه طاعة مجردة من المحبة لأجبرنا على طاعته، ولكنه شاء أن نطيعه عن حب وأن نطيعه عن اختيار، وأن نطيعه عن مبادرة.
ثم إن الموت الذي يخافه الناس جميعاً ويفرقون بذكر اسمه ويفرقون بمقدماته ولأي مرض ينقلهم إلى الدار الآخرة هؤلاء الناس يفهمون الموت على أنه عَدَم ! مع أن الموت رحلة، الموت انتقال، النفس البشرية لا تموت ولكنها تذوق الموت.
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾
(سورة العنكبوت)
فأن تذوق الموت شيء وأن يذوق الإنسان الموت شيء آخر، الموت في وهم الناس عدم.
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169)﴾
(سورة آل عمران)
في أعلى درجات الحياة، بل إن المؤمن ليعذب ببكاء أهله عليه، حينما يرى أهله يلدمون صدورهم ويصرخون ويبكون يتألم لألمهم لأنه في جنات النعيم، بل إن المؤمن حينما يحضر أجله يرى مقامه في الجنة ! فيعرق خجلاً من الله عز وجل، ويصيح صيحة لم أرَ شراً قط، كل ما تحمله في الدنيا من متاعب وابتلاءات وامتحانات يراها ثمناً لهذا النعيم المقيم.
(( غَدًا نَلْقَى الأَحِبَّهْ، مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ ))
(مسند الإمام أحمد))
أيها الإخوة الكرام: لو قرأتم تاريخ الصحابة أجمعين لوجدتم في سيرهم قاسماً مشتركاً واحداً ألا وهو أنهم كانوا في أسعد لحظات حياتهم حين لقاء ربهم ! إنسان في النزع الأخير في ساحة المعركة، تفقده النبي فأرسل من يتفقده، فرآه بين الموتى قال له سيدنا سعد بن الربيع: يا فلان أنت بين الأحياء أم مع الأموات ؟ قال هل: أنا مع الأموات، كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولكن أبلغ رسول الله مني السلام، قل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وقل لصحابه لا عذر لكم إذا خُلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف.
هو يغادر الدنيا، لو نظرت إلى من يغادر الدنيا من البشر المتفلتين لرأيت شيء لا يوصف، صراخ وعويل وضرب وندم واصفرار وإغماء، إذا اقتربت الطائرة من أن تقع انظر ! بينما المؤمن لأنه عمل عملاً يرضي الله عز وجل، فهو في عرس، الموت عرس المؤمن وتحفته.
أيها الإخوة الكرام: قلب المؤمن يعتلج فيه الحب أحد سماته البارزة أنه يحب الله محبة تدفعه إلى طاعته.
﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾
(سورة آل عمران)
تعصي الإله و أنت تظهر حبه ذاك لعمري في المقال شنيع
لو كـان حبك صـادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب يطيـع
أيها الإخوة الكرام: يقول الله عز وجل:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96) ﴾
(سورة مريم)
قال بعض علماء التفسير: ودّا مع الله، وقال بعض آخر ودّاً فيما بينهم،
﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾
(سورة الأنفال)
هذا الودّ بين المؤمنين من خلق الله عز وجل، من خلق الله وينبغي أن يكون، وإن لم يكن فنحن في خطر عظيم
﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾
(سورة الحشر)
هذا الذي يكيد لإخوته المؤمنين، هذا الذي يرتاح لفاحشة ظهرت بينهم.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ ﴾
(سورة النور)
يحب سقوط المؤمن وانهياره وإخفاقه، هو ليس مؤمناً هو في صف المنافقين لقوله تعالى:
﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ﴾
(سورة التوبة)
لكن علامة الإيمان أن يمتلئ قلبك فرحاً لخير أصاب أخيك، من خيري الدنيا والآخرة، هذه علامة إيمانك، ولك أن تمتحن إيمانك من حين إلى آخر، هل تفرح إن أصاب أخيك خير مشروع في الدنيا أو الآخرة ؟ أم تتألم ؟ وتتمنى زوال هذا الخير عنه ؟ وتمنى أن يسقط ؟
أيها الإخوة الكرام: الحب في الله يعني أن تحب إنساناً من دون منفعة ولا شهوة ولا قرابة ولا خدمة أداها لك، تحبه لله، لذلك ورد في بعض الأحاديث في صحيح مسلم:
((أن رجلاً أراد أن يزور رجلاً، فأرسل له الله على مدرجته ملكاً في الطريق في صورة رجل وسأله: أين تذهب ؟ فقال أريد أن أزور أخي فلان،
قال: ألقرابة بينك وبينه ؟ قال: لا، قال: أفبنعمة له عندك ؟ قال: لا قال: فما الذي ؟ قال: أحبه لله، قال: أبشر فإن الذي تحبه من أجله بعثني لأبشرك بأنه يحبك لحبك إياه))
هذا هو الحب في الله، أن تحب إنساناً من دون منفعة ولا مصلحة ولا قرابة ولا نسب، من هنا ورد في بعض الأحاديث القدسية، حدثني معاذ فقال عبادة رحمه الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تبارك وتعالى إنه قال:
((حقت محبتي على المتحابين في يعني نفسه، وحقت محبتي للمتناصحين في، وحقت محبتي على المتزاورين في، وحقت محبتي على المتباذلين في، على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون))
(مجمع الزوائد الإصدار للحافظ الهيثمي)
يجب أن يعود الحب بين المؤمنين يجب ان تضع تحت قدمك كل قضية تبعد أخاك عنك، تسيء العلاقة مع أخيك، أكبر رأس مال للمؤمنين اليوم الحب بينهم، التعاون التكاتف التضامن لأن قضيتنا اليوم قضية مصيرية، نكون أو لا نكون، الطرف الآخر يتمنى دمارنا وإفقارنا، ويتمنى أن نكون جاهلين وأن يكون بيننا عداوة وبغضاء، يعيش على هذه العداوة والبغضاء (فرق تَسود) ما من ردّ إسلامي حار مخلص إلا أن نتعاون.
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾
(سورة المائدة)
كم من طاقات هُدِرت ؟ كم من ثروات تبدلت ؟ كم من أموال أنفقت من أجل العداوة والبغضاء ؟ ولعل مشكلة البشرية اليوم العداوة والبغضاء، وكلها بسبب البعد عن الله، كلما ابتعدت عن الله امتلأ القلب حسداً وحقداً وبغضاً وإساءة، وكلما اقتربت من الله امتلأ رحمة وتواضعاً وحباً للخلق.
إنسان يبالِغ في الإساءة إليك لم يدّخر نوعاً من الإساءة إلا وفعلها فلما فتحت مكة قال: أخ كريم وابن أخ كريم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وحينما ذهب إلى الطائف وبالغ أهلها في الإساءة إليه قال:
((... نَادَانِي جِبريل فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ))
(صحيح البخاري)
هذا هو النبي الكريم،
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) ﴾
(سورة التوبة)
أيها الإخوة الكرام يقول الله عز وجل:
﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) ﴾
(سورة الزخرف)
دققوا: هناك حب في الدنيا مصالح وشهوات، والحقيقة هذا الحب هو حب للذات، لأن حبك لذاتك يدفعك أن تحب امرأة تمتعك، لأن حبك لذاتك يدفعك لأنه تحب رجلاً يعطيك، هذا الحب المبني على مصالح هو حب للذات في الحقيقة، كل أنواع هذا الحب يوم القيامة ينقلب إلى عداوة، قال تعالى:
﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) ﴾
لأنك أحببت أخاك في الله، هذا الحب يبدأ في الدنيا ويستمر إلى أبد الآبدين
﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) ﴾
لو أن إنساناً أحب زوجته، ولأنه يحب زوجته عصى ربه فأكل المال الحرام إرضاءً لها، فتنقلب هذه المحبة يوم القيامة غلى عداوة منكرة، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾
(سورة التغابن)
فإذا حملتك محبتك لزوجتك أو محبتك لابنك أن تعصي الله فهذه المحبة في الدنيا تنقلب عداوة في الآخرة، هذه البنت التي أرضت أباها في الدنيا فخرجت كما تريد، أو أرضاها أبوها في الدنيا وسمح لها بالقيام بما تشاء تقف يوم القيامة وتقول: يا رب لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي ! كل أنواع المودة في الدنيا المبنية على مصالح والأهواء وشهوات تنقلب عداوة في الآخرة:
﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) ﴾
آية ثانية:
﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً (29) ﴾
(سورة الفرقان)
هذه المودة في الدنيا انقلبت إلى عداوة.
أيها الإخوة الكرام: دققوا في هذا الحديث المروي عن أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ:
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ قَاصِيَةِ النَّاسِ وَأَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ انْعَتْهُمْ لَنَا يَعْنِي صِفْهُمْ لَنَا فَسُرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ تَحَابُّوا فِي اللَّهِ وَتَصَافَوْا يَضَعُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُورًا وَثِيَابَهُمْ نُورًا يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَفْزَعُونَ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ))
(مسند الإمام أحمد)
عجيب ليسوا بأنبياء ولا شهداء ! نحن في فقر مدقع إلى حب ومودة بيننا إلى تعاون وإيثار وتضامن. سأل النبي في تبوك عن إحدى أصحابه فقال بعضهم: شغله بستانه يا رسول الله، فقام صحابي جليل وقال: لا والله يا رسول الله، إن أناساً تخلفوا عنك ما نحن بأشد حب لك منهم ! ولو علموا أنك تلقى عدوا ما تخلفوا عنك، ما علمنا عليه إلا خيراً.
هكذا كان أصحاب النبي، ينبغي أن تدافع عن أخيك وتحبه، وتعاونه على الخير.
أيها الإخوة الكرام، من أدعية القرآن الكريم:
﴿/رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
(سورة الحشر)
فكيف بقلب يمتلئ عداوة وحقداً على مؤمن ؟
﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
وكأن النبي عليه الصلاة والسلام فيما أعلمه الله عن آخر الزمان يقول:
عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ...))
(مسند الإمام أحمد)
هؤلاء الأمم الشاردة كل حياتها حروب واستنزاف، كل حياتها كيد وتآمر، هؤلاء هم الشاردون عن الله، ولكن المؤمنين قوم متميزون يقول عليه الصلاة والسلام:
((دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ ما هو داء الأمم ؟ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعَرِ...))
من منا يصدق وينبغي أن يصدق ؟ أن هذه البغضاء التي بين المؤمنين تحلق دينهم جميعاً، لا تبغض الأصح ينبغي أن تعامل أخاك معاملة تنتهي بمحبته لك، ينبغي أن تتقصى أسباب الودّ بينك وبين أخيك، يجب أن تهنئه إذا أصابه خير، وأن تواسيه وأن تعزيّه وأن تقرضه وتزوره، ينبغي أن تتفقد أحواله، هكذا ما من عمل يقرب المؤمنين بعضهم من بعضاً إلا وقد أمر النبي به، وما من عمل يضعضع الثقة بين المؤمنين إلا ونهى النبي عنه، فحرم الغيبة والنميمة، وحرم الإفك والبهتان، وحرم المحاكاة وحرم أن تسلم أخاك إلى أعدائه، وحرم أشياء كثيرة لو طبقها المسلمون لكانوا في حال غير هذا الحال، مظاهر الدين صارخة، ولكن حقيقة الدين ضعيفة، مظاهر الدين مساجد فخمة جداً، في المغرب مسجد بلغت كلفته ألف مليون دولار ! مساجد فخمة جامعات كتب أشرطة محاضرات مؤتمرات كله صارف ولكن الحب الذي كان بين الصحابة جميعا هذا ضعيف جداً، وكلما نما هذا الحب بين المؤمنين كانوا كتلة واحدة، وكانوا صفاً واحداً مرصوصاً.
أيها الإخوة الكرام: بشكل ملخص علاقتك مع أخوك المؤمن تضبطها ثلاثة مستويات: مستوى الإيثار وهو أعلى أنواع الحب، تجوع ليشبع، وتعرى ليكتسي، وتضع نفسك في الظل ليقوى، تعينه وتنجده وتدافع عنه وترفع قدره.
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾
(سورة الحشر)
المستوى الثاني: أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وأن تبغض له ما تبغض لنفسك، والمستوى الضعيف الحد الأدنى مع العلاقة مع أخيك أن تكون سليم الصدر تجاهه، أن يكون قلبك خالياً من الحقد والحسد والبغضاء فإذا كان هناك أعمال تؤدي إلى قطع العلاقة فما بالكم ؟ أين مكانها هذه ؟ الحد الأدنى أن تكون سليم الصدر تجاه إخوانك فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ ))
(سنن أبي داود)
سلامة الصدر هي الحد الأدنى، وأن تحب له ما تحب لنفسك، وأن تبغض له ما تبغض لنفسك، الحد الوسط، لكنك إذا كنت مؤمناً حقاً ومخلصاً وتحب الله ورسوله تؤثره على نفسه ولو كان بك خصاصة !
أيها الإخوة الكرام، لو لم تكن هذه المحبة ما الذي يحل محلها ؟ لو أن ابناً أحب أمه حباً جماً أعطاها كل ما يملك، لكن متى نقيم العدل ؟ إذا فقدت المحبة ! ماذا يقول الله عز وجل:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾
(سورة النحل)
فالقضية مع أخيك إن لم يسعها العدل وسعها الإحسان، ويأمرك بالإحسان أمره لك بالعدل، سيدنا عمر كان حين يرى قاتل أخيه ضرار ابن الخطاب يقول له: أنا لا أحبك ! ولا أحب أن أرى وجهك، فكلما رأيتك تذكرت قتلك لأخي، فقال له: يا أمير المؤمنين: أو يمنعني هذا البغض من أن تعطيني حقي ؟ قال: لا والله، أعطيك حقك، قال: إنما يأسف على الحب النساء.
أيها الإخوة الكرام: إن لم يكن بينك وبين أخيك حب ينبغي أن يكون العدل بينك وبين أخيك، قالوا: زوّج ابنتك لمؤمن إن أحبها أكرمها، وإن لم يحبها لم يظلمها.
أيها الإخوة: الحقد والحسد والبغضاء هذه تسبب موتاً مرضاً آفة، تسبب مرضاً عضالاً وإليكم الدليل:
﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ﴾
(سورة آل عمران)
هذه عبّر عنها الأطباء بالشدة النفسية ! ما أكثر هذا المرض لأنه ينمي في غياب الإيمان، حتى في علاقتك مع زوجتك قال تعالى:
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) ﴾
(سورة النساء)
لعل الخير كله يتأتّى من هذه الزوجة التي لا تحبها ! والمعاشرة بالمعروف ليس أن تمتنع عن إيقاع الأذى بها، بل أن تحتمل الأذى منها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ))
(مسند الإمام أحمد)
ينبغي أن يأخذ الرجل زوجته بمجموعها لا بالتفاصيل، بالتفاصيل يوجد أشياء مزعجة، أما بالمجموع فهناك علامات، حصّلت سبعين إذاً هي ناجحة، أما على التفاصيل قد لا يعجبك خلقاً من خلقها، خذها جملة لا تفصيلاً.
أيها الإخوة الكرام: هذا هو الحب، لكن أهل الدنيا الرومان مسخوه إلى علاقة حسّية بين ذكر وأنثى، وجعلوا لهذه العلاقة عيداً.
يا أيها الإخوة الكرام: الحب أحد أُسس الإسلام، وأحد سمات المؤمن العميقة.
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾
(سورة الروم)
المؤمن يحب زوجته ويحب أمه ويحب أخته ويحب ابنته ويحب محارمه، أما هذه العلاقة بين أي ذكر، وأي أنثى هذه علاقة محرّمة وهذا حب محرم !
أيها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ، وسلم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواننا الكرام معظم المسلمين يمتع عينيه من محارم النساء ويغطي هذا بقول النبي الكريم:
((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَال))
الحديث أيها الإخوة ورد في الصحاح بهذا السياق: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ))
(صحيح مسلم)
فإن الله جميل يحب الجمال يتناول جمال الثياب، المسؤول عنه في نفس الحديث، ويدخل عنه العموم الجمال في كل شيء، وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا))
(صحيح مسلم)
وفي سنن الترمذي:
(( بَاب مَا جَاءَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ ))
(سنن الترمذي)
عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
((رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيَّ أَطْمَارٌ فَقَالَ هَلْ لَكَ مَالٌ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ مِنْ أَيِّ الْمَالِ قُلْتُ مِنْ كُلِّ الْمَالِ قَدْ آتَانِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الشَّاءِ وَالْإِبِلِ قَالَ فَلْتُرَ نِعَمُ اللَّهِ وَكَرَامَتُهُ عَلَيْكَ...))
(مسند الإمام أحمد)
فهو سبحانه وتعالى حينما أخبرنا النبي الكريم أن الله جميل يحب الجمال، يحب ظهور أثر نعمته على عبده، فإنه من الجمال الذي يحبه الله عز وجل، وهذا من شكره على نعمه وهو جمال باطن، فيجب أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة.
أيها الإخوة الكرام: يقول الله عز وجل:
﴿يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾
(سورة الأعراف)
ذكر الله جل جلاله في هذه الآية الجمال الباطن وهو التقوى، والجمال الظاهر وهو لباساً وريشاً، وقال تعالى:
﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ﴾
(سورة الإنسان)
فجمّل وجوههم بالنضرة، وبواطنهم بالسرور، وأبدانهم بالحرير ! القول الجميل جيد جداً، وجمال الأفعال واللباس والهيئة، وإن الله يبغض القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيئات.
أيها الإخوة الكرام: هذه حقيقة أن الله جميل يحب الجمال، استخدم الكلمة اللطيفة، والبس الثوب النظيف، ليس الغالي بل النظيف.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَنَا إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ وَلِبَاسَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا فِي النَّاسِ كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ))
(مسند الإمام أحمد عن أبي الدرداء)
نظّف بيتك، اجعل في بيتك مسحة جمال، هذا من معاني الحديث، ما فهمه المسلمون أن يمتع عينيه بما هو حرام ويقول: بأن الله جميل يحب الجمال.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تعاملنا بفعل المسيئين، يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.
والحمد لله رب العالمين