19258
خطبه الجمعة - الخطبة 0147 : خ1 - ذكرى المولد - محبة النبي صلى الله عليه وسلم1 ، خ2 - المثانة.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1986-11-21
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي، ولا اعتصامي، ولا توكّلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا برُبوبيَّته، وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر، وما سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا، وأرنا الحقّ حقًّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
محبّة النبي عليه الصلاة والسلام جزءٌ من الدّين :
أيها الأخوة المؤمنون، لا زلنا نحتفل بمناسبة مولد النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ألِف المسلمون أن يحضروا خطبًا عن هذا الموضوع، ولكنّ الشيء الذي أريد الإشارة إليه أنّ حبّ النبي عليه الصلاة والسلام جزءٌ من الدِّين، بل إنّه الدّين، يا عمر كيف أصبحت؟ قال: يا رسول الله أصبحتُ وأنا أحبّك أكثر من أهلي وولدي، ومالي والناس أجمعين، إلا نفسي التي بين جنبيّ، فقال: يا عمر، لمَّا يكْمُل إيمانك، لا يكمُل إيمان المرء حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأهله، وولده، وماله، والناس أجمعين.
سؤال أطرحهُ عليكم؛ لماذا محبّة النبي عليه الصلاة والسلام جزءٌ من الدِّين؟ وسؤال آخر؛ كيف نحبّ النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾
[ سورة الأنبياء: 107]
أيها الأخوة الأكارم، محبّة النبي عليه الصلاة والسلام جزءٌ من الدّين لأنّه صلى الله عليه وسلّم هو الإنسان الذي حقّق الهدف تحقيقًا كاملاً، والذي خُلق من أجله الإنسان، فأيّ إنسانٍ على وجه الأرض خلقه الله لِيُحَقّق الهدف الذي حقّقه النبي عليه الصلاة والسلام، فمحبّة النبي تقتضي اتّباع سنّته، واتّباع سنّته يعني نجاحك في الحياة، خلقك الله كي تعرفهُ، وتستقيم على أمره، وتتقرّب إليه، وها أنت قد عرفته، واستقمْت على أمره، وتقرَّبت إليه، كيف أنّك إذا قصَدْت بستانًا جميلاً، لابدّ من أن تدخل لهذا البستان مِن باب، وباب البستان جزءٌ من البستان، ولن تدخل البستان إلا إذا توجَّهْت إلى الباب، ودخلْت منها، والنبي عليه الصلاة والسلام باب الله، أيّ امرئ أتاه من غيرك لا يدخلهُ، إذا أحببْتَ النبي فأنت إنّما تحبُّ حقيقتهُ، لا تحبّ شخصه، ما حقيقته؟ أنّه الإنسان الأكْمَل قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
[ سورة القلم: 4 ]
الإنسان الحامد الذي حمد الله عز وجل، والإنسان المحمود الذي حمده أهل الأرض، وأهل السماء، وأنت بِمَلوم، كلمات لو نعرف حجمها، هل منَّا واحدٌ لمْ تمرّ عليه ساعةٌ يلوم نفسهُ أو يلومه الناس أو يلومه الله عز وجل؟ قال بعض المفسّرين: وما أنت بملوم؛ أي لا عند الخلق، ولا عند الحقّ، ولا عند نفسك، حقَّقْت الكمال الإنساني المطلق، فإذا أحببْتهُ فأنت إنّما تحبّ حقيقته، وإذا أحببْت حقيقته فأنت على طريقه، أيْ إذا أحببْت نفسك فيجبُ أن تحبّ هذا النبي الكريم لأنّه قدوةٌ لك.
محبّة النبي هي محبّة الله ومحبّة الله هي محبّة النبي :
أيها الأخوة الأكارم، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
[ سورة الأحزاب: 21]
أيّ إنسانٍ يرجو الله تعالى واليوم الآخر، فقُدْوتهُ النبي عليه الصلاة والسلام في كلّ نشاطاته، وحركاته، وسكناته، وأحواله، في بيعه وشرائه، في علاقته بجيرانه، وأهله، وزوجته، وأمّه، وأبيه، وفي كلّ شيء، إذا كنت ترجو الله واليوم الآخر فالنبي عليه الصلاة والسلام أيْ سنّته المطهّرة طريقٌ لك في الحياة، ونورٌ تستضيءُ به في الحياة، فمحبّة النبي عليه الصلاة والسلام جزءٌ من الدّين، بل هي الدِّين، قال تعالى:
﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾
[سورة النساء: 65]
قال تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
[ سورة الأحزاب: 36]
محبّة النبي هي محبّة الله سبحانه وتعالى، ومحبّة الله هي محبّة النبي عليه الصلاة والسلام، بل إنّ محبّة النبي عليه الصلاة والسلام ومحبّة الله تعالى شيءٌ واحد، والدليل قوله تعالى:
﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾
[سورة التوبة: 62]
كان ينبغي بِحَسب قواعد اللّغة أن يقول الله عز وجل: والله ورسوله أحقّ أن يرضوهما، لكنّ الله سبحانه وتعالى لحِكمةٍ بالغة ولِيُقرّر معنًى دقيقًا قال:
﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾
[سورة التوبة: 62]
بِضَمير الغائب المفرد، أي إرضاء الله سبحانه وتعالى هو عَيْنُ إرضاء النبي، وإرضاء النبي عليه الصلاة والسلام هو عين إرضاء الله تعالى، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾
[ سورة التوبة : 24]
سبَقَ أن وضَّحْتُ هذه الآية في خطبٍ سابقة، إذًا محبّة النبي عليه الصلاة والسلام جزءٌ من الدّين، بل هي الدّين، ومحبّة الله سبحانه وتعالى ومحبّة النبي عليه الصلاة والسلام شيءٌ واحد، لأنّك إذا أحببْت النبي فهذا الحبّ مشتقّ من محبّتك لله تعالى، وإن أحببْت الله تعالى فهذا الحبّ مشتقّ من محبّة النبي عليه الصلاة والسلام.
في حياة المسلم شيئان متكاملان؛ معرفة بالله ومحبّة له :
ويا أيها الأخوة الأكارم، في الإسلام ثقافات، والمكتبة الإسلاميّة أوْسَع من أن تُعدّ أو تُحصى، ولكنّك إذا قرأْت وقرأْت، وكتبْتَ وكتبْت، وألَّفْت وألَّفْت، ولم يخلط قلبك بِمَحَبّة النبي عليه الصلاة والسلام فهذا العمل يذهب جُفاءً لأنّك لا تملك الذي ينفعك، دقّقوا أيّها الأخوة، إسلامٌ بلا محبّة كجسَدٍ بلا روح، في حياة المسلم شيئان متكاملان؛ معرفة بالله، ومحبّة له، وإسلامٌ بلا محبّة كجسَدٍ بلا روح، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾
[ سورة المائدة : 54 ]
قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾
[ سورة البقرة: 165 ]
طريق المحبّة طريقٌ مُسْعِد، وطريقٌ يسرّع الخطا، يحرقُ المراحل كما يقولون، أنت بالحبّ تفعل المستحيل، أنت بالحبّ تسبقُ الناس أجمعين:
وحياة أشواقي إليـــك وتربة الصّبْر الجميل
ما استحْسَنَتْ عيني سواك ولا صبوْتُ إلى خليل
***
من كان يرجو الله واليوم الآخر فينبغي أن يحبّ الله ورسوله :
الناس جميعًا يحبّون الدنيا، يحبّون مالها، قد يسيلُ لعابه لِمَنظر الأموال وهي تُعدّ أمامه، قد يذوبُ شوقًا إلى بيتٍ فاخر، قد يتحسَّر على زواجه إذا رأى امرأةً تروقُ له، ولكنّ الذين آمنوا أشدّ حبًّاً لله تعالى، ماذا فعل المؤمن؟ اختار شيئًا ثمينًا، لم يحبّ شيئًا فانيًا، لم يحبّ عرَضًا من أعراض الدنيا، ولكنّه أحبّ الأبديّ السرمديّ، أحبّ الذي خلقه ولم يكن شيئًا، محبّة النبي عليه الصلاة والسلام جزءٌ من الدّين، ولأنّك إذا أحببْتهُ أحببت حقيقته، وحقيقته أنّه إنسانٌ حقّق الهدف من خلقه تحقيقًا كاملاً فهو قدْوَة لك إن كنت ترجو الله واليوم الآخر، من كان يرجو الدنيا فيُحبّ أهل الدّنيا، ومن كان يرجو المال يحبّ أرباب المال، ومن يرجو الرّفْعة بين الناس يحبّ من يرفعهُ بين الناس، من كان يرجو متعَ الحياة الرخيصة يحبّ من يوفّر له هذه المُتَع، ومن كان يرجو الله واليوم الآخر فينبغي أن يحبّ الله ورسوله.
محبّة النبي حالةٌ نفسيّة يصدقها العمل :
شيءٌ آخر: محبّة النبي حالةٌ نفسيّة، ولها مؤشِّرٌ خارجي، فهي حالةٌ يصدّقها العمل، فإن لم يكن ثمَّة عملٌ يُصدّقها فهي غير موجودة قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾
[ سورة آل عمران: 31 ]
والله الذي لا إله إلا هو، لا أقول هذا كي نتشاءم، ولكنّ الحقيقة مرّة إن لمْ تقتف سنّة النبي عليه الصلاة والسلام في حياتك، وفي بيتك، وفي دكّانك، وفي وظيفتك، وفي علاقاتك كلّها، فأنت والله لا تحبّه، إذا جاءكَ وأنت موظّف مواطنٌ وصاحبُ حاجة فأرْجأْتَهُ، وعقَّدْتَ عليه مُشكلتهُ، وجعلْت أمام حلّ مشكلته عقباتٍ كأداء، من أجل أن تبتزّ من ماله، فأنت والله لا تحبّ النبي عليه الصلاة والسلام، وإن قسوْت على زوجتك، وظلمتها، والنبي يقول لك: "أوصيكم بالنّساء خيرًا، ما أكرمهنّ إلا كريم، ولا أهانهنّ إلا لئيم، يغلبْن كلّ كريم، ويغلبهنّ كريم، وأنا أحبّ أن أكون كريمًا مغلوبًا من أن أكون لئيمًا غالبًا"، إذا قسوْت على زوجتك، وشتَمْتها، وضربْتها، وظلمْتها، فوالله لا تحبّ الله ورسوله، لا تتوهّم أنّك تحبّ رسول الله، فمحبّته تعني اقتفاء أثره، وإذا غششْت المسلمين، وغششْت المجوسيّ، إذا غششْت عابد الصَّنَم، إذا غششْت من أنكرَ وُجود الله، فأنت والله لست من أمّة النبي عليه الصلاة والسلام، ليس منّا من غش، ليس منَّا من وسَّع الله عليه وقتَّر على عياله، أنت لسْتَ من أمّة هذا النبي الكريم، ما عُبِدَ الله في الأرض بأفضل من جبْر الخواطر، لا تقل أحبّ النبي، وتقم احتفالاً، وتأتي بالمنشدين، وتوزّع الحلوى، وأنت لسْتَ على سنّته، فخيرٌ لك ألا تقيم هذا الاحتفال، خيرٌ لك أن تقيم سنّته في بيتك.
أيها الأخوة الأكارم، كفانا مظاهر، كفانا أعمالاً لا تنطوي على حقائق، من قال لكم: إنّ الطالب الذي يطلّ على الجامعة في كلّ عامٍ مرّة يصبحُ طبيبًا؟! هذا كلامٌ لا يصدّقهُ أحد، إذا أردْت أن تكون طبيبًا فينبغي أن تدرس الطبّ كلّ يوم، وكلَّ ليلة، أما أن تكتفي في كلّ عام بأنْ تُقيم احتفالاً في بيتك، تدعو إليه أصدقاءك، وتوزّع الحلوى، وتختار فرقةً من الإنشاد باهظة التكاليف، وتطبع هذه الأناشيد على أشرطةٍ، وتوزّعها على من تحبّ وأنت بذلك تظنّ أنّك حقَّقْت الهدف، فيجب أن تتَّبِعَ سنّته في كلّ دقيقة، وفي كلّ حركة، هل كان يُتابعُ نظرهُ للنساء؟ لا والله، كان يغضّ بصره، ويحلبُ شاته، ويخسف نعلهُ، كان يرفو ثوبه، ويكنسُ داره، كان يرحمُ عياله، وكان محبًّا للناس، ورحيمًا بهم، يا محمدّ، أمرني ربّي أن أكون طوْع إرادتك:
(( إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ))
[ متفق عليه عن عائشة]
هذه محبّة النبي، لا أن تنتقم من الناس، لا أن تعذّب الناس، لا أن تكون مصدر قلقٍ لهم، الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء:
((بينما رجل يمشي بطريق إذا اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب فخرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقي الكلب فشكر الله له فغفر له فقالوا يا رسول الله وان لنا في البهائم أجرا فقال في كل كبد رطبة أجر ))
[ موطأ مالك عن أبي هريرة]
والله الذي لا إله إلا هو إن لم ترحم الحيوان فلسْت من أمّة رسول الله، فكيف إن لم ترحم الإنسان؟! فكيف إن كنت سببًا في تعذيبه وشقائه؟
الاحتفال بذكرى المولد يعني أن نقتفِيَ أثرَ هذا النبي الكريم، هذا هو السّؤال الأوّل، لماذا يجب أن نحبّ النبي؟ لأنّ محبّته جزءٌ من الدِّين، بل هي الدِّين كلّه، وإسلامٌ بلا محبّة كجسَدٍ بلا روح، ولأنّ النبي عليه الصلاة والسلام هو الإنسان الذي حقّق الهدف الأكمل من خلقه، وأنت إذا أحببْتهُ أحببْت حقيقته، وإذا أحببْت حقيقته صرْت على سنّته، فمحبّة النبي عليه الصلاة والسلام حاجةٌ نفسيّة تؤكّدها اتّباعك لسُنَته صلى الله عليه وسلّم.
كيفية محبة النبي صلى الله عليه و سلم :
أما السّؤال الثاني؛ كيف نحبّ النبي عليه الصلاة والسلام؟
أيها الأخ الكريم، المحبّة لها قانون، وأعني بكلمة قانون العلاقة الثابتة بين متحوِّلَين، محبّة النبي تقتضي أن يكون عندك شيءٌ من بضاعته، بضاعة النبي الخُلُق الحسن، فإذا كنت على شيءٍ من الخُلق العظيم فلابدّ من أن تحبّ هذا النبي الكريم، حبّك له حبٌّ حَتمي، من أين تأتي بالخلق العظيم؟ إذا فكَّرت في هذا الكون، ودقَّقْت، وتأمّلْت، وبحثْت، وعرفْت أنّ لهذا الكون إلهًا عظيمًا، وربًّا رحيمًا، ومسيِّرًا حكيمًا، عرفتهُ من خلال الكون واسْتقمْت على أمره، وأقبلْت عليه،أخذْت منه بعض مكارم الأخلاق، إنّ مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحبَّ الله عبدًا منحَهُ خلقًا حسنًا، بهذا الخلق الحسن الذي كسبْتهُ من صلاتك المبنيّة على استقامتك، وعلى معرفتك، تعرف الله، وتستقيم على أمره، وتُقبلُ عليه، وتشتقّ من كمالاته، عندها ترى نفسك تعشقُ هذا النبي الكريم.
قلْتُ لكم قبل قليل: أتكون محبّة النبي عليه الصلاة والسلام إراديّة؟ لا والله، فالمحبّة عملٌ لا إراديّ، ولكنّ طريقها إراديّ، فالطريق إليها إراديّ إذا كنتَ مستقيمًا، ومُصلِّيًا، وقد اصطبغَ قلبك بالكمال الإلهي، عندئذٍ تحبّ النبي، وإذا ذُكِر النبي عليه الصلاة والسلام تنهمر دموعك، ويقشعرّ جلدك، ويضطرب فؤادك، لا ترى في الحياة شيئًا أغلى ولا أثمن من أن تكون معه، لذلك هذا العبد الذي رآه النبي يبكي، فقال: لمَ تبكي؟ قال: إنِّي كلّما تذكّرتُ مقامك في الجنّة ازْددْتُ بكاءً، أين أنا وأين أنت؟ فنزلَ قوله تعالى:
﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ﴾
[ سورة النساء: 69]
من صلى على النبي اتصلت نفسه به و عرف كماله و رحمته :
أيها الأخوة المؤمنون، طبّقوا هذه الوصيّة؛ تفَكُّرٌ في آيات الكون، وتطبيق دقيق لأوامره تعالى، واتّصال بالله عز وجل، واشتِقاق للكمال الإلهي، عندئذٍ تجدُ هذا القلب لا يحبّ إلا النبي، ولا يهفو إلا إليه، ولا يسْعدُ إلا بقُربه، قال تعالى:
﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾
[ سورة التوبة: 103 ]
إنّ التفاتك إليهم سكَنٌ لهم، كم أخٍ كريم قال لي: رأيتُ النبي عليه الصلاة والسلام؟ بقيتُ أسابيع وأنا مغمورٌ بالسعادة، قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾
[ سورة الأحزاب: 56 ]
(( كان عليه الصلاة والسلام يصعدُ المنبر، رقي درجةً فقال: آمين، فرقي الثاني وقال: آمين، ورقيَ الثالثة فقال: آمين، فقالوا: يا رسول الله على ما أمَّنْت ؟ فقال: جاءني جبريل فقال لي: رغم أنف عبدٍ أدرك والديه، ولم يُدخلاه الجنّة، فقلتُ: آمين-أي بِرُّك لأبيك وأمِّك عملٌ كافٍ لدُخول الجنّة- فلمّا ارتقيْتُ الثانية، قال لي جبريل: رغم أنفُ عبدٍ أدرك رمضان فلم يُغفر له، إن لم يُغفر له فمتى، فقلتُ آمين، ثمّ رقيتُ الثالثة فقال جبريل: رغم أنفُ عبدٍ ذُكِرْت عندهُ فلمْ يُصلّ عليك، فقلتُ: آمين ))
[ مسلم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ ]
يتوهّم الناس أنَّك إذا قلت: اللهمّ صلّ وسلّم على النبي، ومسحْت وجهك، والله هذا الأمر ما أراد الله عز وجل أن تفعله بهذا الشّكل المادّي الصوري فإذا صلَّيْت على النبي اتَّصَلَتْ نفسك به، لابدّ من أن تعرفه، وأن تعرف كمالاته، وشمائله، ورحمته، وعدله، وحكمته، ومحبّته، وحرصه، وشكره، وصبره، وجهاده، لابدّ من أن تعرفه حتى تشتاق نفسك إليه، فإذا ذكرتُ عنده فالشقيّ من ذُكِرْتُ عنده، ولم يصلّ عليّ، قال تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
[ سورة الأنفال: 33 ]
كلمة ما كان من أشدّ صِيَغ النفي، أيْ مستحيل أن يعذّب الله قومًا النبي فيهم، ومعنى النبي فيهم أي في أخلاقهم، وفي معاملاتهم، وفي بيوتهم، البيت الذي ينشأ صِغارهُ على حبّ النبي هذا بيتٌ سذكرى، المحلّ التجاري الذي يُقامُ على أساسٍ ديني فيه استقامة، وورع، وخوف من الله عز وجل، واتّباع لسُنَّة النبي؛ هذا المحل مبارك، ولن يخاف صاحبه، ولن ترتعد مفاصلهُ، المحلّ الذي بُنِيَ على طاعة الله تعالى الله يحفظهُ، والبيت الذي بُني على طاعة الله يحفظه الله، والزواج الذي بُنيَ على محبّة الله ورسوله الله يحفظه، ويوفّق الزوجين، فمحبّة النبي لها طريق؛ اعْرِف الله أوَّلاً، واسْتَقِمْ على أمره ثانيًا، أقبِلْ عليه ثالثًا، تشتقّ الكمال منه رابعًا، عندئذٍ أنت مؤهَّل كي تحبّ النبي، ومحبّته عملٌ عَفْويّ، لا تحسّ إلا والدّموع تنهمر إذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام.
من طبق سنة النبي فلن يعذبه الله :
أما السؤال الأخير، وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم، ما دامتْ محبّتك في قلوبهم، ما كان الله ليُعذّبهم، وما دامَتْ سنّتك مطبّقة فيهم ما كان الله ليُعذّبهم، ما دامتْ أوامرك ونواهيهم في أفعالهم ما كان الله ليُعذّبهم، أكثر من ثلاثمئة حديث شريف متعلّقة في البيع والشّراء، وأكثر التجار يخالفونها، إذًا هم في قلقٍ شديد، قال عليه الصلاة والسلام: "إنّ أطْيَب الكسْب كسب التجار، الذين إذا حدَّثوا لم يكذبوا" أين هذا التاجر الصادق الذي لا يكذب؟ ربّما كذب عليك في نوع البضاعة، أو في منشئِها، أو في صلاحيّتها، أو في مستواها، أو في سِعرها، أو في كمّيتها، أو في موعد تسْليمها، الذين إذا حدَّثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لمْ يخلفوا، وإذا ائتُمنوا لم يخونوا، وإذا اشْتروا لمْ يذمّوا، وإذا باعوا لمْ يُطروا أي لمْ يمدحوا، وإذا كان لهم لم يُعسروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا؛ هذه هي سنّة النبي في الشّراء الْتَزِمها، واشْعُر عندها بالأمْن والطمأنينة، لا بالخوف والقلق، ما كان الله ليُعذّبهم وأنت فيهم، مستحيل أن يُعذّب الإنسان عذابًا نفسيًّاً، أو جسدِيًّاً، أو مادِيًّاً، وهو مطبِّقٌ لسُنة النبي، لأنّ سنّة النبي عليه الصلاة والسلام ليْسَت من عنده، إن هي إلا وحي يوحى، السنّة النبويّة تبْيانٌ للقرآن الكريم، كلّه من عند الله تعالى، حتى إنّ علماء الأصول قالوا: هناك الوحيُ المتْلُوّ وهو القرآن الكريم، وهناك الوحي غير المتلو وهي سنّة النبي الكريم.
أيها الأخوة المؤمنون، هذه المعاني مشتقّة من مناسبة المولد النبويّ الشريف، لو لم تُقِمْ أيّ احتفالٍ في بيتك، بل اقْتَفَيْتَ أثرهُ، دقَّقْت في الطعام، وفي علاقتك بِزَوجتك، في خروج زوجتك من البيت، هل هي وفْق ما أمر النبي عليه الصلاة والسلام؟ أولادك، عملك، أيّ شيءٍ في حياتك إذا طبَّقْتَ فيه السنّة سعِدْت وأسْعَدْت، وربِحْتَ وفُزْتَ، فإن لم تُقِمْ احتفالاً إطلاقًا بل طبَّقْت سنّته فأنت من أعظم المحتفلين بِمَولده الشريف، أما المظاهر فلا قيمة لها، قال عليه الصلاة والسلام:
((ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمنّي))
[ابن عدي عن أبى هريرة]
التحلّي أن تكتب على محلّك التجاري: بسم الله الرحمن الرحيم، إنّا فتحنا لك فتحًا مبينًا، وتضع على مركبتك مصحفًا، وتضع المرأة في صدرها مصحفًا وهي سافرة! هذا هو التحليّ ؛ آية قرآنيّة في البيت، ومصحف موجود على لوحة واحدة مطبوعٌ بألمانيا، أشياء من المظاهر، إذا دخلْت هذا البيت دلّ المظهر على أنّ أهله ديّنون، ولكن هناك اختلاطاً، وتقصيراً في الصلاة، وهناك كذباً، وهذا هو التحليّ، فليس الإيمان بالتحلّي، ولا بالتمنّي، كأن يقول: اللهمّ اجعلنا من المؤمنين، ونحن عباد إحسان وليس عباد امتحان، لا يسعُنا إلا فضله، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾
[ سورة النساء: 123 ]
الله سبحانه وتعالى لا يتعامل مع عباده بالتمنّي، قال تعالى:
﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ﴾
[ سورة النساء: 123 ]
لماذا في أمور الدنيا تسعى ولا تنام الليل وترتّب وتخطّط وفي أمور الآخرة تتْركها على التمنّيات؟ هذا هو الحمْق بِعَينِهِ، لماذا إذا بلغَكَ أنّ هذا البيت سعرهُ رخيصٌ جدًّاً، وفي موقعٍ ممتاز، وأنت بِحاجة إليه وتمْلك الثَّمَن، لماذا لا تنام تلك الليلة وتطرق باب الدلال الساعة الخامسة؟! لماذا في أمْر الدنيا تسْعى، وفي أمر الآخرة تتَّكِل؟
((ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن بما وقر في القلب وصدقه العمل))
[ابن عدي عن أبى هريرة]
وفي رواية: وأقرّ به اللّسان.
للآخرة سعي دقيق ومشروط ومحدّد :
أيها الأخوة الأكارم، كفانا بالمظاهر، حاسِبْ نفسكَ حِسابًا دقيقًا، وأين موقعك في الإيمان؟ هل أنت في بداية الطريق أم في نهايته؟ أين أنت؟ ماذا لك؟ وماذا عليك؟ لو أنّ ملكَ الموت جاءكَ في وقْتٍ قريب، ما موقفك من الله عز وجل؟ ما جوابك؟ وما حيلتك؟ لماذا فعلْتَ كذا وكذا؟ أجِبني؟ قالتْ السيّدة عائشة: "يا رسول الله، أيَعْرِفُ بعضنا بعضًا يوم القيامة؟ قال: نعم يا أمّ المؤمنين، إلا في ثلاثة مواطن، عند الصّراط، وعند الميزان، وإذا الصّحف نُشِرَتْ"، في ثلاثة مواطن لو وقعَتْ عيْنُ الأمّ على ابنها لا تعرفه، من شِدّة الهول، وفيما سوى ذلك قد تقعُ عين الأمّ على ابنها، تقول له: "يا بنيّ، جعلتُ لك بطني وعاءً، وصدري سِقاءً، وحجْري وِطاءً، فهل من حسنةٍ يعود عليّ خيرها اليوم؟ تسْتجدي ابنها حسنةً، فيقول لها: يا أُمّاه ليْتني أستطيع ذلك، إنّما أشْكو ممّا أنت منه تشكين"، قال تعالى:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
[ سورة الشعراء:88-89]
الموت قريب، من عدّ غدًا من أجله فقد أساء صُحبة الموت، قال:
كلّ ابن أُنثى وإن طالَتْ سلامته يومًا على آلة حدباء محمول
فإذا حملْتَ إلى القبور جـنازة فاعلم بأنّك بعــدها محمول
***
لابدّ من ساعةٍ تُكتب النَّعْوَة على الجدران، ويُسجّى الإنسان على طاولة، ويُغسَّل، ويُحمل لِيُصلّى عليه، ثمّ لِيُدْفن، إنّ هذه الساعة آتيَةٌ لا ريب فيها فأعِدُّوا لها العدّة الكافيَة، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ﴾
[ سورة الإسراء : 19]
لم يقل الله عز وجل وسعى لها فقط، لو كان كذلك لكان كلّ سعيٍ مقبول، من أراد الطبّ فللطبّ علامات خاصّة به، فالآخرة لها سعيٌ دقيق، ومشروط، ومحدّد، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ﴾
[ سورة الإسراء : 19]
أيها الأخوة المؤمنون، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المثانة :
أيها الأخوة المؤمنون، طالعْتُ في هذا اليوم مقالةً عن المثانة، نحن مغمورون في نِعَمٍ لا يعلمها إلا من تأمَّلها، هذه المثانة زوَّدَها الله بأعصاب متوضِّعة في جُدرانها، فإذا امتلأتْ تنبَّهَت الأعصاب، وأرسلتْ إلى النخاع الشوكي رسالةً أنّها قد امتلأتْ، والنخاع الشوكي يُرسلُ أمراً إلى عضلات المثانة، فيها عضلات تأتمر بأمْرٍ من النخاع الشوكي، هذه العضلات تتقلَّص، ويأتي أمرٌ ثان إلى فتْحتها السفلى، العضلة التي تُحكمُ إغلاقها تسْترخي فتنفتِح، إذا امتلأتْ وضغَطَ البول على جُدران المثانة تنبَّهَت الأعصاب فأرسلَت إلى النخاع الشوكي رسالةً مستعجلة أنّها قد امتلأت فيأتي الأمر من النخاع الشوكي إلى العضلات بأن تتقلَّص، وإلى العضلة التي فتحتها سفلى بأن تسترخي، ولكنّ تصميم الله سبحانه وتعالى فيه حكمةٌ ما بعدها حكمة، إنّ هذه العضلات التي قد أمرها النخاع الشوكي أن تتقلّص، وهذه العضلة التي أمرها النخاع الشوكي أن تسترخي لا تنفّذ الأمر إلا بعد أن تأتي إشارةٌ من الدّماغ أن نفّذوا هذا الأمر، كيف أنّ هذا الحكم لا يصدّق إلا إذا وُقِّعَ من المراجع العليا، كذلك هذا الأمر الذي يصدر من النخاع الشوكي إلى عضلات المثانة كي تتقلّص، وإلى عضلة الفتحة السفليّة كي تسترخي، هذان الأمران لا ينفّذان إلا بِمُوافقة الدّماغ، لو أنّك في موطنٍ حسّاس، وفي اجتماعٍ مهمّ، تركب طائرة عند ضيفٍ يستقبلك، وامتلأت المثانة، وجاء الأمر من النخاع الشوكي، ونفّذ الأمر أين مكانتك؟ أين شخصيّتُك؟ أين شأنك؟ عندها تحتاج إلى فُوَط، ولكنّ هذه المثانة وهذا الأمر لا ينفّذان إلا بِمُوافقة الدّماغ، وبِمُوافقة مركز المحاكمة، هل الوقت مناسب؟ إلا أنّ هناك علاقةً عجيبة، لو أنّ الدّماغ لم يوافق، وظلّ لا يوافق، واستمرّ على عدم الموافقة إلى درجة أنّ البول بدأ يدخل من الحالبين ليصل إلى الكليتين، عندها هناك خطر تسمّم الدم كلّه! عندئذٍ النخاع الشوكي لا ينتظر موافقة الدّماغ، يأمر عضلات المثانة فتتقلّص، ويأمر عضلة الفتحة السّفليّة فتسترخي ويخرج البول، وهذا حفاظًا على صحّة الإنسان، ما هذا التصميم؟ كيف تكون حياتنا بلا مثانة؟ في كلّ عشرين ثانية تنزل من الكليتين قطرتان، ماذا تكون حياتنا وكيف تكون من دون مثانة؟ هذا المستودع الذي يتّسع لما يزيد عن لترٍ ونصف تستطيع أن تركب سيارة خمس ساعات، وسبع ساعات، وأنت في أوْجِ راحتك، وتمام شخصيتك، وتوافر مكانتك، قال تعالى:
﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾
[ سورة الطور: 35 ]
من الذي صمّم هذا الجهاز ؟ أشياء دقيقة.
أيها الأخوة المؤمنون، باب الكون أوْسَع باب إلى الله عز وجل، اُدخلوا منه، بابٌ مفتوحةٌ أبوابه على مصارعها.
الدعاء :
اللهمّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيْت، وتولَّنا فيمن تولّيْت، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت، فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك، إنَّه لا يذلّ من واليْت، ولا يعزّ من عادَيْت، تباركْت ربّنا وتعاليْت، ولك الحمد على ما قضيْت، نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارضَ عنَّا، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ، مولانا ربّ العالمين، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك، ولا تهتِك عنَّا سترَك، ولا تنسنا ذكرك، يا رب العالمين، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء، ومن شماتة العداء، ومن السَّلْب بعد العطاء، يا أكرم الأكرمين، نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الذلّ إلا لك، ومن الفقر إلا إليك، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين، وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.
والحمد لله رب العالمين